لما كان الفكر يمثل مجموعة الأفكار التي يتبناها الإنسان فتؤثر في حياته ، ولمّا كان هذا الانسان يكتسب تلك الحصيلة المعرفية والفكرية كلما كبر و نظر وتأمل وتفاعل مع محيطه أكثر ، فإنه يستلزم من ذلك تلقائيا ان يتكون لديه بعد عشرات السنين تراكم معرفي يزداد كلما ازداد استخدامه لأدوات اكتساب المعرفة كالعقل والحس و ارتشف من معين مصادره كالوحي والعالم .
و حتى يستطيع الإنسان أن يسير على خطى واثقة في رحلته الفكرية ، وجب عليه أن يتنبه الى عالم أفكاره كيف يهندسه ويبنيه حتى يخرج بناء فكريا واضح المعالم دونما اعوجاج يصيبه . فهذا البناء هو القاعدة التي ترتكز عليها القناعات العقلية والمعتقدات وما تتضمنه من حقائق ومفاهيم ومبادئ ، أما طريقة اللاطريقة التي قد ينهجهها المُطّلع و طالب العلم والمعرفة والتي تجعل من عقله مستودعا لمعلومات مكدسة مخزنة مجمعة إن أساء استخدامها والتي تعرف بالتجميع ، قد توكله الى واد سحيق ضرره اكبر من سوأة الجهل الذي كان فيه.
ويتجلى مفهوم البناء الفكري بالآية في سورة التوبة " أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين " (1) ،
فتأسيس الانسان لبنيانه على قاعدة سليمة واضحة - كالتقوى ومعرفة الله هنا - يختلف عمّن أسسه على قاعدة منحرفة معوجة منزلقة تسقط وتنهار في نهاية المطاف ، فكيف بمن لم يؤسس أصلا لمنهاج متكامل في التعامل مع هذه المعرفة التي يتحصلها في حياته بل التقط شذرات عن طريق كسب عشوائيّ سدّ ثقوبا معرفية صغيرة بها ربما، بلا شك سيكونوا هم الأخسرين لوقتهم وجهدهم وسيضل سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .
ومن لبّ الأثر السيء للتكديس دون التأسيس للمنهجية الصحيحة وللتجميع دون البناء، تظهر أهمية الموضوع وتتبين للباحث والمفكر والمطلع ، لأن الهدف من المسيرة الفكرية ليس تجميع المعلومات للوصول الى أكبر قدر منها دون وعي لكل فكرة دخلت العقل وأخذت حيزا فيه ،إنما هي بناء لجسم المعرفة مبتدئين بالحقائق ومتوصلين للنظريات بإدراك تام و بصيرة متنفذة.
ومع ذلك لا يمكن أن ننفي عن التجميع فائدة كونه كالمادة الخام ،التي لا تبني البناء انما تُلصق بين اللبنات ، فالبناء له قاعدة وخطة ووضوح في طريقة التفكير،والتجميع تحصيل وتراكم وبالاستخدام الصحيح تعتبر اساسا في مسار الانسان الفكري.
(1) سورة التوبة ، آية (109)