خواطر , استوقفتني أية , مقالاتي , "وذكــّر", صفحة من التاريخ , فلسطيني

الجمعة، 27 يوليو 2012

الفكر : بين التأسيس والتكديس


لما كان الفكر يمثل مجموعة الأفكار التي يتبناها الإنسان فتؤثر في حياته ، ولمّا كان هذا الانسان يكتسب تلك الحصيلة المعرفية والفكرية كلما كبر و نظر وتأمل وتفاعل مع محيطه أكثر ، فإنه يستلزم من ذلك تلقائيا ان يتكون لديه  بعد عشرات السنين  تراكم معرفي  يزداد كلما ازداد استخدامه لأدوات اكتساب المعرفة كالعقل والحس و ارتشف من معين مصادره كالوحي والعالم .

و حتى يستطيع الإنسان أن يسير على خطى واثقة في رحلته الفكرية ، وجب عليه أن يتنبه الى عالم أفكاره كيف يهندسه ويبنيه حتى يخرج بناء فكريا واضح المعالم دونما اعوجاج يصيبه . فهذا البناء هو القاعدة التي ترتكز عليها القناعات العقلية والمعتقدات وما تتضمنه من حقائق ومفاهيم ومبادئ  ، أما طريقة اللاطريقة التي قد ينهجهها المُطّلع و طالب العلم والمعرفة والتي تجعل من عقله مستودعا لمعلومات مكدسة مخزنة مجمعة إن أساء استخدامها والتي تعرف بالتجميع ، قد توكله الى واد سحيق ضرره اكبر من سوأة الجهل الذي كان فيه.

ويتجلى مفهوم البناء الفكري بالآية في سورة التوبة " أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين "
(1) ،
فتأسيس الانسان لبنيانه على قاعدة سليمة واضحة  - كالتقوى ومعرفة الله هنا - يختلف عمّن أسسه على قاعدة منحرفة معوجة منزلقة تسقط وتنهار في نهاية المطاف ، فكيف بمن لم يؤسس أصلا
لمنهاج متكامل في التعامل مع هذه المعرفة التي يتحصلها في حياته  بل التقط شذرات عن طريق كسب عشوائيّ سدّ ثقوبا معرفية صغيرة بها ربما، بلا شك سيكونوا هم الأخسرين لوقتهم وجهدهم وسيضل سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .

ومن لبّ الأثر السيء للتكديس دون التأسيس للمنهجية الصحيحة وللتجميع دون البناء، تظهر أهمية الموضوع وتتبين للباحث والمفكر والمطلع ، لأن الهدف من المسيرة الفكرية ليس تجميع المعلومات للوصول الى أكبر قدر منها دون وعي لكل فكرة دخلت العقل وأخذت حيزا فيه ،إنما هي بناء لجسم المعرفة مبتدئين بالحقائق ومتوصلين للنظريات بإدراك تام و بصيرة متنفذة.

ومع ذلك لا يمكن أن ننفي عن التجميع فائدة كونه كالمادة الخام ،التي لا تبني البناء انما تُلصق بين اللبنات ، فالبناء له قاعدة وخطة ووضوح في طريقة التفكير،والتجميع تحصيل وتراكم وبالاستخدام الصحيح تعتبر اساسا في مسار الانسان الفكري.




(1) سورة التوبة ، آية (109)


الخميس، 17 مايو 2012

التحديات الفكرية التي يواجهها طالب العلم الشرعي .





في ظلّ عصر التكنولوجيا المتطور الذي نعيش فيه الأن ، والتقنيات التي سهلّت وصول المعلومة للجميع ، والشبكات الاجتماعية وقنوات اليوتيوب، والحقيقة التي لا تخفى على أحد ، فإن العلم توقف عن كونه حبيس الكتب ، وانتقل من الإحتكار في الصدور إلى فضاء العقول ، و أصبحت الأفكار مبثوثة في سماء كل ذي نفس ، والتساؤلات حق مكفول للجميع ، لا يكاد يكون لها سقف أو حاجز.


وبما أن من عظمة الإسلام أن لكل سؤال جواب ، وبما أن اخفاء الحقيقة و قمع العقول زمانه قد فات ، فإن البحث في مسألة تُسأل عنها ، و تجلية ما ران عليها والبحث في دقها وجلّها للوصول إلى جواب ،أصبح أمرا لازما عليك  لمعرفة الحق وتعريف الناس به وإن لم يكن مثل ما تعلمته او على هواك او طابق مبتغاك . وطريقة البحث هذه والتفكير، تتطلب حياد ونظرة غير نمطية و عقلية ليّنة تتقبل كل المعطيات وتتوقع اي نتيجة كانت، للوصول الى الصحيح من المخرجات.


أكثر من يواجه هذه الصعوبات و التي تجعله يسبح في تيار معاكس، بين ما تعلّمه وتعوّد عليه ، وبين ما يخرج مجددا من المسائل المحققة التي تلغي بعض ما كان وما درس ، هو طالب العلم الشرعي ، وخصوصا طالب علم الفقه وأصوله.
علم الشريعة  ليس كأي علم إنساني ، هو علم تنبني عليه حياة الفرد وعلاقاته مع البشر والافكار والانسان والاشياء، ومن قبلها علاقته مع خالقه .


طالب العلم الشرعي الفقهي الأصولي يعيش في زمن المصلحة المقدمة على النص ، فهو يقف حائرا بين قداسة هذا النص وبين تجدد المصلحة في زمن تتغير احداثياته كل دقيقة . هذا الطالب تعلّم التمسك بالحكم الراجح الذي رآه أمامه وخرج به ،يتعامل ب أسلوب " هات دليلك ونتحاور" ، و عند مقارنة الأدلة بين مسألتين يحاول أن يحيّد رأيه ويستحضر كل الشواهد القوية والضعيفة محاولا استنباط الحكم الصحيح .و لست أذمّ الأسلوب هنا بتاتا،بل إني أقف مدافعة ومحاولة لأبين كيف تتشكل جزء من عقلية الفقيه عند الدراسة والتي تجعله احيانا تقليديا في تناول الأمور.
و رغم أن طالب العلم الشرعي عالم بالواقع وبالمستجدات ، إلا أنه يبقى خائفا أن يخرج عن المألوف في التفكير والنظرة للأمور والحكم خوفا من أن يصطدم ذلك مع أصول تعلّمها و علماء درسّوه و طريقة يحاجج بها ، لذلك يقع في دوامة تفكير تسبب له صداع يؤرقه ،فهو في لحظة حاسمة ويجب أن يُكوّن رأي جديّ وحازم.


أن تقرأ لعلماء معاصرين خالفوا النص الذي أمامك لمصلحة قد لا تراها معتبرة ولا بأي شكل ،و أن تجد فوجا هائلا من الناس يتبعون ما يقال على الساحة ،إضافة الى أنك  أصلا ممن يحاولون نزع النمطية عن العقلية هذه ، فأنت اذن ستجاهد أولا نفسك وهواك وستواجه من درسّوك وستواجه المجتمع  وستواجه مدرسيك وستواجه التيار التجديدي وستواجه كل فكرة لتمحّصها وتدققها وتخرج بعدها برأي،هذا إن استمريت عليه.


ولست أبالغ  هنا ، فوحده الدكتور عدنان ابراهيم - بالنسبة لي -  كان ظاهرة جعلتني أخوض صراعا نفسيا رهيب بين ما يقول و أدلته وبين من يرد عليها وبين رأيي واقتناعي ، وجعلني أتأمل باللانمطية التي يجب ان يكون عليها الفقهاء بغض النظر عن كون آراء هذا العدنان صحيحة أم لا.


الأمر ليس سهلا ، بل هو بالصعوبة بمكان يجعلك أحيانا تريد التوقف ، فأنت تطلب الحق وبنفس الوقت تخاف من مطرقة "الجامد المفرط" و سندان "التجديدي التفريطي" ، و لا يكون هذا الصراع قويا جدا الا عند طالب العم الشرعي كما اعتقد ، فهو في كليته ومن خلال دراسته يتصرف ويفكر بطريقة تختلف عن الدارس للهندسة مثلا لكنه باحث في الدراسات الشرعية ، فهو يتعصب للنص أكثر من أي شخص آخر وأكثر من أي شيء آخر، وأكرر أنني لست بمقام اللوم هنا ، فبرأيي هذه طبيعة التكوين للعقلية الشرعية في بلادنا وجامعاتنا.


لذا أن يتصدّ المسلم للعلم الشرعي  أمر جدّ خطير وعميق ، لا أقولها تخويفا بل تنبيها أن هذا العلم كلما زاد دراستك له  زاد ثقل الأمانة عليك  وكثرت التحديات لديك ، وهو ليس علم يكن به الأجر وانتهى ، فأنت ان لم تكن على قدره وقعت ووقعت أمة خلفك .


"إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال وأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان ،إنه كان ظلوما جهولا"


أسأل الله تعالى أن يرزقنا حسن الفهم ويهدينا الى الحق ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل ويرزقنا اجتنابه.